الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***
- فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ- وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ- فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ، فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِى عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ أَلا قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْحِجَابِ. - وفيه: عَائِشَةَ أنَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِى حَاجَتِكُنَّ-. قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِى الْبَرَازَ. قال المؤلف: البَراز، بفتح الباء، فى اللغة ما برز من الأرض واتسع، كنى به عن الحدث، كما كنى عن الغائط، والغائط المطمئن من الأرض. وقال المهلب: فيه مراجعة الأدون للأعلى فى الشىء يتبين للأدون. وفيه: فضل المراجعة إذا لم يقصد به التعنيت، وأنه قد تبين فيها من العلم ما يخفى، لأن نزول الآية كان سببه المراجعة. وفيه: فضل عمر، وهذه من إحدى الثلاث الذى وافق فيها ربه. وفيه: كلام الرجال مع النساء فى الطرق. وفيه: جواز وعظ الرجل أمه فى البِرِّ، لأن سودة من أمهات المؤمنين. وفائدة هذا الباب أنه يجوز التصرف للنساء فيما بهن الحاجة إليه، لأن الله أذن لهن فى الخروج إلى البراز بعد نزول الحجاب، فلما جاز لهن ذلك جاز لهن الخروج إلى غيره من مصالحهن، أو صلة أرحامهن التى أوجبها الله عليهن، وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم النساء بالخروج إلى العيدين. وفى قوله: تمت قد عرفناك يا سودة- دليل أنه قد يجوز الإغلاظ فى القول والعتاب إذا كان قصده الخير. قال عبد الواحد: فى قول عمر: تمت احجب نساءك- التزام النصحية لله ورسوله.
- فيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِىءُ أَنَا وَغُلامٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ، يَعْنِى يَسْتَنْجِي بِهِ. قال المهلب: قال أبو محمد الأصيلى: الاستنجاء بالماء ليس بالبين فى هذا الحديث، لأن قوله: تمت يعنى يستنجى به-، ليس من قول أنس، وإنما هو من قول أبى الوليد الطيالسى. وقد رواه سليمان بن حرب، عن شعبة، وقال شعبة: تمت تبعته أنا وغلام، معنا إداوة من ماء-، ولم يذكر: فيستنجى به، فيحتمل أن يكون الماء لطهوره أو لوضوئه، فقال له أبو عبد الله بن أبى صفرة: قد تابع أبا الوليد النضرُ، وشاذان عن شعبة، وقالا: تمت يستنجى بالماء-، فقال: تواترت الآثار عن أبى هريرة، وأسامة وغيرهما من الصحابة على الحجارة. قال المؤلف: وقد اختلف السلف فى الاستنجاء بالماء فأما المهاجرون فكانوا يستنجون بالأحجار، وأنكر الاستنجاء بالماء سعد بن أبى وقاص، وحذيفة، وابن الزبير، وسعيد بن المسيب، وقال: إنما ذلك وضوء النساء. وكان الحسن لا يغسل بالماء، وقال عطاء: غسل الدبر محدث. وكان الأنصار يستنجون بالماء، وكان ابن عمر يرى الاستنجاء بالماء بعد أن لم يكن يراه، وهو مذهب رافع بن خديج، وروى ذلك عن حذيفة، وعن أنس أنه كان يستنجى بالخرص، واحتج الطحاوى للاستنجاء بالماء، فقال: قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]، فطلبنا تأويل ذلك، فوجدنا السلف قد تأولوا معنى الآية على قولين: فقال عطاء: إن الله يحب التوابين، يعنى من الذنوب، والمتطهرين بالماء، وروى عن على بن أبى طالب مثله. وعن أبى الجوزاء: ففى هذا أن الطهارة التى أحب الله أهلها عليها فى هذه الآية هى الطهارة بالماء. وقال أبو العالية: إن الله يحب التوابين، ويحب المتطهرين من الذنوب. ولما اختلفوا فى التأويل طلبنا الوجه فيه من كتاب الله، فوجدنا الله قال: (فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108]، وقال الشعبى: لما نزلت هذه الآية، قال صلى الله عليه وسلم: تمت يا أهل قباء، ما هذا الثناء الذى أثنى الله عليكم-؟ قالوا: ما منا أحد إلا وهو يستنجى بالماء. وروى سفيان، عن يونس بن خباب، عن عبد الرحمن بن أبى الزناد، عن عبد الله بن خباب، أن أهل قباء ذكروا للنبى صلى الله عليه وسلم الاستنجاء بالماء، فقال: تمت إن الله قد أثنى عليكم فدوموا-. وقال محمد بن عبد الله بن سلام: أما تجدوه مكتوبًا علينا فى التوراة الاستنجاء بالماء-، فدل ذلك أن الطهارة المذكورة فى الآية الأولى هى هذه الطهارة. وقال غيره: روت معاذة، عن عائشة، قالت: مُرن أزواجكن أن يغسلوا أثر الغائط والبول والماء، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله. وروى مالك فى موطأه، عن عمر بن الخطاب، أنه كان يتوضأ بالماء وضوءًا لما تحت إزاره. قال مالك: يريد الاستنجاء بالماء، وترجم لحديث أنس باب من حمل معه الماء لطهوره، وباب حمل العَنَزَة مع الماء فى الاستنجاء. قال المهلب: معنى حمل العنزة، والله أعلم، أنه كان إذا استنجى توضأ، وإذا توضأ صلى، فكانت العنزة لسترته فى الصلاة. وفيه: أن خدمة العالم، وحمل ما يحتاج إليه من إناء وغيره، شرف للمتعلم، ومستحب له، ألا ترى قول أبى الدرداء: أليس فيكم صاحب النعلين والطهور، والوسادة. يعنى عبد الله بن مسعود، فأراد بذلك الثناء عليه والمدح له، لخدمة النبى صلى الله عليه وسلم.
- فيه: ابن أَبِى قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَفَّسْ فِى الإنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاءَ فَلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلا يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ-. قال المؤلف: التنفس فى الإناء منهى عنه كما نُهى عن النفخ فى الإناء، وإنما السنة إراقة القذى من الإناء لا النفخ فيه، ولا التنفس، لئلا يتقذره جلساؤه. وقوله: تمت لا يمس ذكره بيمينه-، فهو فى معنى النهى عن الاستنجاء باليمين، لأن القبل والدبر عورة، وموضع الأذى، وهذا إذا كان فى الخلاء، وأما على الإطلاق على ما روى عن عثمان أنه قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت بها رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فهذا على إكرام اليمين، وإجلا النبى صلى الله عليه وسلم فى مباشرته، وهذا كله عند الفقهاء نهى أدب. قال المهلب: وفيه: فضل الميامن، وقد قال على: يمينى لوجهى، يعنى للأكل وغيره، وشمالى لحاجتى، وقد نزع لهذا الكلام ابنه الحسن حين امتخط بيمينه عند معاوية، فأنكر عليه معاوية، وقال: بشمالك. وأما الاستنجاء باليمين، فمذهب مالك، وأكثر الفقهاء أن من فعل ذلك فبئس ما فعل ولا شىء عليه. وقال بعض أصحاب الشافعى، وأهل الظاهر: لا يجزئه الاستنجاء بيمينه لمطابقة النهى. والصواب فى ذلك قول الجمهور، لأن النهى عن الاستنجاء باليمين من باب الأدب، كما أن النهى عن الأكل بالشمال من باب أدب الأكل، فمن أكل بشماله فقد عصى، ولا يحرم عليه طعامه بذلك، وكذلك من استنجى بيمينه، وأزل الغائط فقد خالف النهى، ولم يقدح ذلك فى وضوئه ولا صلاته، ولم يأت حرامًا. وترجم الحديث ابن أبى قتادة باب لا يمس ذكره بيمينه إذا بال، وهذا كله من باب الأدب، وتفضيل الميامن، ألا ترى قول عثمان: ولا مسست ذكرى بيمينى مذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فينبغى التأدب بأدب النبى صلى الله عليه وسلم، وسلف الصحابة، وتنزيه اليمنى عن استعمالها فى الأقذار ومواضعها.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ:- اتَّبَعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَكَانَ لا يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ، فَقَالَ: تمت ابْغِنِى أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا، أَوْ نَحْوَهُ، وَلا تَأْتِنِى بِعَظْمٍ وَلا رَوْثٍ-، فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِى، فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. قال المؤلف: الاستنجاء هو إزالة النجو من المخرج بالأحجار أو بالماء، واختلف العلماء فى ذلك هل هو فرض أو سنة؟ فذهب مالك والكوفيون إلى أنه سنة لاينبغى تركها، فإن صلى كذلك فلا إعادة عليه، إلا أن مالكًا يستحب له الإعادة فى الوقت، وذهب الشافعى، وأحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنجاء فرض، ولا تجزئ صلاة من صلى بغير استنجاء بالأحجار أو بالماء، واحتجوا بأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بالاستنجاء بثلاثة أحجار، فكل نجاسة قرنت فى الشرع بعدد، فإن إزالتها واجبة، كولوغ الكلب، وسيأتى الكلام على من أوجب العدد فى أحجار الاستنجاء فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، فأما غسل الولوغ عند مالك وأصحابه فليس لنجاسة، وسيأتى بعد هذا، إن شاء الله تعالى. والحجة لقول مالك، والكوفيين أنه معلوم أن الحجر لا ينقى إنقاء الماء، فلما وجب أن يقتصر على الحجر فى ذلك مع بقاء أثر الغائط علم أن إزالة النجاسة سنة، وقد سئل ابن سيرين عن رجل صلى بغير استنجاء، فقال: لا أعلم به بأسًا. وقيل لسعيد بن جبير: إزالة النجاسة فرض؟ فقال: اتل علىَّ به قرآنًا. قال ابن القصار: فرأى أن الفرض لا يكون إلا بقرآن، وقد يكون ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم لمجمل القرآن، فأما ما يبتدئه صلى الله عليه وسلم، فليس بفرض. ومن الاستنجاء بالأحجار جعل أهل العراق أصلاً أن مقدار الدرهم من النجاسات فما دون، معفو عنه، قياسًا على دود الدبر، لأن الحجر لا يزيل أثر الغائط منه إزالة صحيحة. واختلفوا هل يجوز الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الأحجار من الآجر والخزف، والتراب وقطع الخشب؟. فأجاز مالك، وأبو حنيفة، والشافعى الاستنجاء بكل ما يقوم مقام الحجارة فى إزالة الأذى ما لم يكن مأكولاً أو نجسًا. وقال أهل الظاهر: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار، قاله ابن القصار. وحجة الفقهاء أنه صلى الله عليه وسلم لما نهى عن العظم والروث دل أن ما عداهما بخلافهما، وإلا لم يكن لتخصيصهما بالنهى فائدة. فإن قيل: إنما نص عليهما تنبيهًا أن ما عداهما فى معناهما. قيل: هذا لا يجوز، لأن التنبيه إنما يفيد إذا كان فى المنبه عليه معنى المنبه له وزيادة. فأما أن يكون دونه فى المعنى فلا يفيد كقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] دخل فيه الضرب، لأن الضرب فيه أف، وأبلغ منه، ولو نص على الضرب لم يكن فيه التنبيه على المنع من أف، لأنه ليس فى أف معنى الضرب، وقد قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75]، فعلم أن من أدى الأمانة فى القنطار كان أولى أن يؤديها فى الدينار، ومن لم يؤدها فى الدينار كان أولى ألا يؤديها فى القنطار، وكذلك ما عدا الروث والرَّمة من الطاهرات، لأنه ليس فى الطاهرات معنى الروث والرَّمة، فلم يقع التنبيه عليها، بل وقع على ما فى معناها من سائر النجاسات التى هى أعظم منها.
- فيه: عَبْدَاللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم الْغَائِطَ، فَأَمَرَنِى أَنْ آتِيَهُ بِثَلاثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ، فَلَمْ أَجِدْهُ فَأَخَذْتُ رَوْثَةً، فَأَتَيْتُهُ بِهَا فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ، وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ، وَقَالَ: تمت هَذَا رِكْسٌ-. واختلف العلماء فى عدد الأحجار، فذهب مالك، وأبو حنيفة إلى أنه إن اقتصر على دون ثلاثة أحجار مع الإنقاء جاز. وقال الشافعى: لا يجوز الاقتصار على دون ثلاثة أحجار وإن أنقى. قال الطحاوى: وفى هذا الحديث دليل على أن عدد الأحجار ليس فرض، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم، قعد للغائط فى مكان ليس فيه أحجار، لقوله لعبد الله: تمت ناولنى ثلاثة أحجار-، ولو كان بحضرته من ذلك شىء لما احتاج أن يناوله من غير ذلك المكان، فلما أتاه عبد الله بحجرين وروثة فألقى الروثة، وأخذ الحجرين دل ذلك على أن الاستنجاء بهما يجزئ مما يجزئ منه الثلاثة، لأنه لو لم يجز إلا الثلاثة لما اكتفى بالحجرين، ولأمر عبد الله أن يبغيه ثالثًا. وقال ابن القصار: وقد روى فى بعض الآثار التى لا تصح أنه أتاه بثالث فأى الأمرين كان فالاستدلال لنا به صحيح، لأنه صلى الله عليه وسلم اقتصر للموضعين على ثلاثة أحجار، فحصل لكل واحد منهما أقل من ثلاثة، لأنه لم يقتصر على الاستنجاء لأحد الموضعين ويترك الآخر. قال: ويحتمل أن يكون أراد بذكر الثلاثة أن الغالب وجود الاستنقاء بها كما ذكر فى المستيقظ من النوم أن يغسل يده ثلاثًا قبل إدخالها الإناء على غير وجه الشرط، والدليل على أن الثلاثة ليست بحدّ أنه لو لم ينق بها لزاد عليها، فنستعمل الأخبار كلها فنحمل أخبارنا على جواز الاقتصار على الثلاثة إذا أنقت ولا يقتصر عليها إذا لم تنق، فعلم أن الفرض الإنقاء. ويجوز أن تحمل الثلاثة على الاستحسان، وإن أنقى بما دونها، لأن الاستنجاء مسح، والمسح فى الشرع لا يوجب التكرار، دليه مسح الرأس والخفين، وأيضًا فإنها نجاسة عفى عن أثرها، فوجب ألا يجب تكرار المسح فيها. وأيضًا فإن الحجر الواحد لو كان له ثلاثة أحرف قام مقام الثلاثة الأحجار فكذلك يقوم الحجر والحجران مقام الثلاثة إذا حصل بها قلع النجاسة. وقوله: تمت هذا ركس- يمكن أن يريد معنى الرجس، ولم أجد لأهل النحو شرح هذه الكلمة والرسول صلى الله عليه وسلم أعظم الأمة فى اللغة.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
- فيه: عُثْمَانَ، أنّه تَوَضَّأَ ثَلاثًا ثَلاثًا، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِى هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لا يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ-. وقال مرةٌ: لأُحَدِّثَنكُمْ حَدِيثًا لَوْلا آيَةٌ فِى كَتاب اللَّه مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: تمت لا يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ مسلمٌ فيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّى الصَّلاةَ، إِلا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا-. قَالَ عُرْوَةُ الآيَةَ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ} [البقرة: 174]. قال الطحاوى: فى هذه الأحاديث دليل أن المفترض من الوضوء هو مرة مرة، وما زاد على ذلك فهو لإصابة الفضل لا الفرض، وأن المرتين والثلاثة من ذلك على الإباحة، فمن شاء توضأ مرة، ومن شاء مرتين، ومن شاء ثلاثًا وهذا قول أهل العلم جميعًا، لا نعلم بينهم فى ذلك اختلافًا. وقد تقدم هذا المعنى فى كتاب الوضوء والحمد لله. وفى حديث عثمان من الفقه أنه فرضٌ على العالم تبليغ ما عنده من العلم وبثه فى الناس، لأن الله قد توعد الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى باللعنة من الله وعباده، وأخذ الميثاق على العلماء ليبيننه للناس ولا يكتمونه، وهذه الآية وإن كانت نزلت فى أهل الكتاب، فقد دخل فيها كل من علم علمًا تعبد الله العباد بمعرفته، ولزمه من بثَّه وتبلغيه ما لزم أهل الكتاب من ذلك، والله الموفق. قال المهلب: فيه: أن الإخلاص لله فى العبادة، وترك الشغل بأسباب الدنيا يوجب الله عليه الغفران، ويتقبله من عبده، وإذا صح هذا وجب أن يكون من لها فى صلاته عما هو فيه، وشغل نفسه بالأمانى، فقد أتلف أجر عمله، وقد وبخ الله بذلك أقوامًا: (لاهية قلوبهم} [الأنبياء: 3] وقد جاء أن الله لا يقبل الدعاء من قلبٍ لاهٍ. قال غيره: وأما من وسوس له الشيطان وحدث نفسه فى صلاته بأشياء دون قصد منه لذلك، فإنه يرجى أن تقبل صلاته، ولا تبطل، وتكون دون صلاة الذى لم يحدث نفسه، بدليل أن النبى صلى الله عليه وسلم قد اشتغل باله فى الصلاة حتى سها، وهذا قل ما يسلم منه أحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: تمت إن الشيطان لا يزال بالمرء فى صلاته يذكره ما لم يكن يذكر حتى لا يدرى كم صلى-. وقوله فى حديث عثمان: تمت لا يحدث فيها نفسه-، يدل على هذا المعنى، لأنه ما ضمنه لمراعى ذلك فى صلاته من الغفران يدل على أنه قل ما تسلم صلاته من حديث نفس.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ-. الاستنثار هو دفع الماء الحاصل فى الأنف بالاستنشاق، ولا يكون الاستنثار إلا بعد الاستنشاق، والاستنشاق هو أخذ الماء بريح الأنف، وإنما لم يذكر هاهنا الاستنشاق، لأن ذكر الاستنثار دليل عليه إذ لا يكون إلا منه، وقد أوجب بعض العلماء الاستنثار بظاهر هذا الحديث، وحمل ذلك أكثر العلماء على الندب، واستدلوا بأن غسل باطن الوجه غير مأخوذ علينا فى الوضوء، وسيأتى زيادة فى هذا المعنى فى باب المضمضة بعد هذا، إن شاء الله.
- فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِى أَنْفِهِ ماءً ثُمَّ لِيَنْثُرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِى وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لا يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ-. بعض الرواة يقول فى هذا الحديث: تمت فليجعل فى أنفه ماء-، وهو الاستنشاق، وبعضهم لا يذكر ذلك، والمعنى مفهوم فى رواية من قصر عن ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: تمت من استجمر فليوتر- فالاستجمار عند العرب: إزالة النجو من المخرج بالجمار، والجمار عندهم الحجارة الصغار، واحتج الفقهاء بهذا الحديث أن عدة الأحجار فى الاستجمار غير واجب. قال الطحاوى: والدليل على ذلك ما قال إبراهيم بن مروان، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، قال: حدثنا حصين الحبرانى، قال: حدثنا أبو سعيد الخير، عن أبى هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تمت من استجمر فليوتر، من فعل هذا فقد أحسن، ومن لا فلا حرج-. فدل فى الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم إنما أمر بالوتر فى الآثار الأولى استحبابًا منه للوتر، لا أن ذلك من طريق الفرض الذى لا يجوز إلا هو. واختلف العلماء فى غسل اليد قبل إدخالها الإناء للوضوء فذهب مالك والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى إلى أن ذلك مندوب إليه، وليس بواجب. وقال أحمد: إن كان من نوم الليل دون النهار وجب غسلهما. وذهب قوم إلى أنه واجب فى كل نوم لا لنجاسة، فإن أدخلها قبل غسلهما لم يفسد الماء. وقال الحسن البصرى: إن أدخلهما الإناء قبل غسلهما نجس الماء سواء كان على يده نجاسة أم لا. واحتج الذين أوجبوا غسلهما بأن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بغسلهما قبل إدخالهما الإناء أمرًا مطلقًا. قال ابن القصار: فيقال لهم: الحديث يدل على أنه استحباب، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم علل ونبه بقوله: تمت فإن أحدكم لا يدرى أين باتت يده-. فعلمنا انه على طريق الاحتياط، وأعلمنا أنه ليس لأجل الحدث بالنوم، لأنه لو كان ذلك لم يحتج إلى الاعتلال، لأن قائلاً لو قال: اغسل ثوبك فإنك لا تدرى أى شىء حدث فيه، وهل أصابه نجس أم لا؟ لعلم أن ذلك على الاحتياط، ولم يجب غسله إلا أن تظهر فيه نجاسة. وقال النخعى: كان أصحاب عبد الله إذا ذكر عندهم حديث أبى هريرة، قالوا: كيف يصنع أبو هريرة بالمهراس الذى بالمدينة؟. وقال أعمش: عن إسماعيل بن رجاء، عن أبيه، عن البراء بن عازب، أنه كان يدخل يده فى المطهرة قبل أن يغسلها.
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم. - فيه: عُثْمَانَ، أنًّه دَعَا بِوَضُوءٍ، فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِى الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاثًا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثًا...، الحديث. قال ابن القصار: واختلف العلماء فى المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: فذهب ربيعة، ومالك، والليث، والأوزاعى، والشافعى إلى أنهما سنتان فى الوضوء، وفى غسل الجنابة جميعًا. وذهب إسحاق، وابن أبى ليلى إلى أنهما واجبتان فى الطهارتين جميعًا: الوضوء وغسل الجنابة. وذهب الثورى، وأبو حنيفة، وأصحابه إلى أنهما واجبتان فى غسل الجنابة، وغير واجبتين فى الوضوء، وهو قول إسحاق وحماد بن أبى سليمان. وذهب أحمد، وأبو ثور إلى أن الاستنشاق واجب فيهما، والمضمضة غير واجبة فيهما. وحجة القول الأول أنه لا فرض فى الوضوء إلا ما ذكر الله تعالى فى القرآن، وذكر غسل الوجه واليدين إلى المرفقين، ومسح الرأس، وغسل الرجلين. قالوا: وما لم يوجبه الله فى كتابه، ولا أوجبه رسوله، ولا اتفق الجميع عليه فليس بواجب، والفرائض لا تثبت إلا من هذه الوجوه، وقالوا: الوجه ما ظهر لا ما بطن، وقد أجمعوا أنه ليس عليه غسل باطن عينيه، فكذلك المضمضة والاستنشاق، ورى عن ابن عمر أنه كان يدخل الماء فى عينيه فى وضوئه، ولم يتابع عليه. وحجة الكوفيين قوله صلى الله عليه وسلم: تمت تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر، وأنقوا البشرة، وفى الأنف ما فيه من الشعر، ولا يُوصَل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: تمت العينان تزنيان والفم يزنى. وحجة من أوجبهما فى الوضوء والغسل قوله تعالى: {وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ} [النساء: 43] كما قال فى الوضوء: (فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، فما وجب فى الواحد من الغسل وجب فى الآخر، ولم يحفظ أحد عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه ترك ذلك فى وضوئه ولا غسله، وهو المُبَيِّن عن الله تعالى مراده. وحجة من فرق بين المضمضة والاستنشاق أن الرسول صلى الله عليه وسلم [فعل] المضمضة ولم يأمر بها، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره أقوى من فعله.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَنَّا فِى سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ، وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ-، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا. هذا الحديث تفسير لقوله: (وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ} [المائدة: 6]، والمراد منه غسل الأرجل لا مسحها. قال الطحاوى: وقد ذهب قوم من السلف إلى خلاف هذا، وقالوا: الغرض فى الرجلين هو المسح لا الغسل وقرءوا: تمت وأرجلِكم- بالخفض، روى ذلك عن الحسن البصرى، ومجاهد، وعكرمة، والشعبى. وقال الشعبى: نزل القرآن بالمسح والسنة الغسل، واحتجوا من طريق النظر بالتيمم، وقالوا: لما كان حكم الوجه واليدين فى الوضوء الغسل، وحكم الرأس المسح بإجماع، كان التيمم على الوجه واليدين المغسولين، وسقط عن الرأس الممسوح، كان حكم الرجلين بحكم الرأس أشبه، إذ سقط التيمم عنهما كما سقط عن الرأس. وقال أخرون: تمت أرجلَكم- بالنصب، وقالوا: عاد إلى الغسل، روى ذلك عن ابن مسعود، وابن عباس، والتقدير: اغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وأرجلكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم. قال غيره: والقراءتان صحيحتان ومعلوم أن الغسل مخالف للمسح وغير جائز أن تَبطُل إحدى القراءتين بالأخرى، فلم يبق إلا أن يكون المعنى الغسل، وقد وجدنا العرب تخفض بالجوار، وإتباع اللفظ، والمراد عندهم المعنى، كما قال امرؤ القيس: كبير أناس فى بجاد مزمل فخفض بالجوار، والمزمل الرجل، وإعرابه الرفع، ومثله كثير. وقد تقول العرب: تمسحت للصلاة، والمراد الغسل. وروى أشهب، عن مالك أنه سُئل عن قراءة من قرأ: تمت وأرجلِكم- بالخفض؟ فقال: هو الغسل. قال الطحاوى: و إلى هذا ذهب أكثر أهل العلم، وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى وغيرهم، واحتجوا بحديث هذا الباب، وقالوا: لما توعدهم النبى صلى الله عليه وسلم على مسح أرجلهم علم أن الوعيد لا يكون إلا فى ترك مفروض عليهم، وأن المسح الذى كانوا يفعلونه لو كان هو المراد بالآية، على ما قال الشعبى لكان منسوخًا بقوله: تمت ويل للأعقاب من النار- ويدل على صحة هذا أن كل من روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم صفة الوضوء روى أنه غسل رجليه، لا أنه مسحهما، وقد روى عنه صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن حكمهما الغسل. روى مالك عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تمت إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء، فإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه-. فهذا يدل على أن الرجلين فرضهما الغسل، لأن فرضهما لو كان المسح لم يكن فى غسلهما ثواب، ألا ترى أن الرأس الذى فرضه المسح لا ثواب فى غسله، والحجة على من قال بالمسح، ما أدخلوه من طريق النظر، أن يقال لهم: إنا رأينا أشياء يكون فرضها الغسل فى حال وجود الماء ثم يسقط ذلك الفرض فى حال عدم الماء، لا إلى فرض من ذلك الجنب عليه أن يغسل سائر جسده بالماء، فإذا عدم الماء وجب عليه التيمم فى وجهه ويديه، وسقط حكم سائر بدنه بعد الوجه واليدين لا إلى بدل، فلم يدل ذلك أن ما سقط فرضه كان فرضه فى حال وجود الماء المسح فبطلت علة المخالف إذ كان قد لزمه فى قوله مثل ما لزم خصمه، وهذه معارضة صحيحة، قاله الطحاوى.
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أنه قَال للنَّاس، وهم يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت وَيْلٌ لِلأعْقَابِ مِنَ النَّارِ-. قد تقدم القول فى معنى هذا الحديث فى الباب الذى قبل هذا، ونزيده بيانًا، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أمرهم بإسباغ الوضوء دل أن فرض الرجلين الغسل، لأنه لما قال: تمت ويل للأعقاب من النار-، والأعقاب غير ممسوحة عند من يقول بالمسح كما لا تمسح من الخفين كان دليلاً أن فرض الرجلين غير المسح، لأنه لما قال لهم: أسبغوا الوضوء، لما تركوا من أرجلهم دل أن الأرجل توضأ، ولا يكون ذلك إلا بالغسل، ولما أراد منهم عموم الرجلين، حتى لا يبقى منها لُمعة كان ذلك دليلا على الغسل لا على المسح، قاله الطحاوى. واختلفوا فى تحريك الخاتم فى الوضوء فممن روى عنه تحريكه على بن أبى طالب، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وهو قول ابن سيرين، والحسن، وعروة، وميمون بن مهران، وحماد الكوفى، وإليه ذهب أبو ثور. ورخص فى ترك تحريكه سالم، وهو قول مالك، والأوزاعى. وقال أحمد بن حنبل: إن كان ضيقًا يخلله، وإن كان سلسًا يدعه، وقاله عبد العزيز بن أبى سلمة.
- فيه: ابن عُمَرَ، أنه كان يَصنَع أَرْبَعًا لَمْ يكن أَحَد مِنْ أَصْحَابِه يَصْنَعُهَا، قَالَ: وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِى لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ، وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا....، وذكر باقى الحديث. فى ترجمة البخارى لهذا الباب رد لما روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم: تمت أنه كان يمسح على النعلين فى الوضوء-، وروى أيضًا عن على بن أبى طالب أنه أجاز ذلك، وعن أبى مسعود الأنصارى، والبراء مثله، وروى أيضًا عن النخعى. وحجة هذا القول ما روى حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن أوس بن أبى أوس، عن أبيه، أنه كان فى سفر فمسح على نعليه، فقيل له: لم تفعل هذا؟ قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على النعلين. فأراد البخارى أن يعرفك من حديث ابن عمر أن رواية من روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم المسح على النعلين كان وهمًا، وأنه كان غسلاً بدليل هذا الحديث، ولم يصح عند البخارى حديث المسح على النعلين. وأوس بن أبى أوس من الشيوخ الذين لا يوازون بعبيد بن جريج، عن ابن عمر. وبترك المسح على النعلين قال أئمة الفتوى بالأمصار. فإن قال قائل: فقد روى الثورى عن يحيى بن أبى حية، عن أبى الجلاس، عن ابن عمر، أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه. فدل أن قوله فى حديث عبيد بن جريج: تمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ فى النعال السبتية- أنه كان يمسح رجليه فى نعليه فى الوضوء لا أنه كان يغسلهما. قيل له: ليس الأمر كما توهمت، ولا يصح عن ابن عمر أنه كان يمسح على جوربيه ونعليه، لأن يحيى بن أبى حية ضعيف، ولا حجة فى نقله، والصحيح عن ابن عمر بنقل الأئمة: تمت أنه كان يغسل رجليه ولا يمسح عليهما-. روى أبو عوانة، عن أبى بشر، عن مجاهد أنه ذكر له المسح على القدمين، فقال: تمت كان ابن عمر يغسل رجليه غسلا، وكنت أسكب عليه الماء سكبًا-. وروى عبد العزيز بن الماجشون، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر مثله. وقال عطاء: لم يبلغنى عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مسح على نعليه. فهذا أبو هريرة مما روى عن ابن عمر أنه مسح على نعليه. قال الطحاوى: ونظرنا فى اختلاف هذه الآثار لنعلم صحيح الحكم فى ذلك، فرأينا الخفين الذين جوز المسح عليهما إذا تخرقا حتى بدت القدمان منهما أو أكثرهما، فكل قد أجمع أنه لا يمسح عليهما فلما كان المسح على الخفين إنما يجوز إذا غيبا القدمين، ويبطل إذا لم يغيبا القدمين، وكانت النعلان غير مغيبة للقدمين ثبت أنها كالخفين اللذين لا يغيبان القدمين، فلا يجوز المسح عليهما. والنعال السبتية هى التى لا شعر فيها. قال صحاب العين: سبت رأسه إذا حلقه، وسأزيد فى شرحه فى كتاب اللباس، فى باب النعال السبتية إن شاء الله.
- فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النَّبِىُّ قَالَ لَهُنَّ فِى غَسْلِ ابْنَتِهِ: تمت ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا، وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا. - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: أن النَّبِىُّ كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. قال المهلب: فيه فضل اليمين على الشمال، ألا ترى قوله صلى الله عليه وسلم حاكيا عن ربه: تمت وكلتا يديه يمين-، وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]، وهم أهل الجنة، وقال صلى الله عليه وسلم: تمت لا يبصق أحد فى المسجد عن يمينه- فهذا كله يدل على فضل الميامن. واستحب جماعة فقهاء الأمصار أن يبدأ المتوضئ بيمينه، قبل يساره، فإن بدأ بيساره قبل يمينه فلا إعادة عليه. وقد روى عن على، وابن مسعود أنهما قالا: لا تبالى بأى يديك ابتدأت. وبدؤه صلى الله عليه وسلم بالميامن فى شأنه كله، والله أعلم، هو على وجه التفاؤل من أهل اليمين باليمين، لأنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل الحسن. وقوله صلى الله عليه وسلم: تمت وكلتا يديه يمين-، أراد نفى النقص عنه عز وجل لأن الشمال أنقص من اليمين.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ، فَالْتُمِسَ الْمَاءُ، فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ. - فيه: أَنَسِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، وَأُتِىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِى ذَلِكَ الإنَاءِ يَدَهُ، وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ، قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. قال: الصلاة لا تجب إلا بدخول الوقت بإجماع الأمة، وعند وجوبها يجب التماس الماء للوضوء لمن كان على غير طهارة، والوضوء قبل الوقت حسن، لأنه من التأهب للصلاة، ألا ترى أن التأهب للعدو قبل لقائه حسن؟ وليس التيمم هكذا، ولا يجوز عند أهل الحجاز التيمم للصلاة قبل وقتها، وأجازه أهل العراق، ولهذا أجازوا صلوات كثيرة بتيمم واحد. قال المهلب: وفيه أن الأملاك ترتفع عند الضرورة، لأنه إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالماء لم يكن أحد أحق به من غيره بل كانوا فيه سواء. فعرضته على بعض أهل العلم، فقال: ليس فى الحديث ما يدل على ارتفاع مالك مالكه، ولا فى الأصول ما يرفع الأملاك عن أربابها إلا برضى منهم، ولعله أراد أن المواساة لازمة عند الضرورة لمن كان فى مائه فضل عن وضوئه. قال عبد الواحد: مما يدل على أن ليس فى إتيانهم بالماء ارتفاع ملك مالكه أنه لو لم يكن فى ذلك الماء غير ما يفوت وضوء الآتى به لم يجز له أن يعطيه لغيره ويتيمم، لأنه كان يكون واجدًا للماء، فلا يجزئه التيمم إلا أن يكون الرسول أو إمام المسلمين فينبغى أن يفضله به على نفسه، لحاجة الإمام إلى كمال الطهارة، وأنها فيه أوكد من سائر الناس، والماء الذى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يرتفع ملك أحد عنه، لأن من أتى به فقد توضأ به، والماء الذى ينبع وعم الناس كان ببركة النبى صلى الله عليه وسلم ومن أجله، فلم يكن لأحد تملكه. وقال المزنى: ما أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه الآية العظيمة، والعلم الجسيم فى نبع الماء من بين أصابعه أعظم مما أوتيه موسى حين ضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، لأن الماء معهود أن تنفجر من الحجارة، وليس بمعهود أن يتفجر من بين أصابع أحد غير نبينا. وقال المهلب مثله، وزاد: أن الماء كان بمقدار وضوء رجل واحد، وعم أهل العسكر أجمعين ببركته صلى الله عليه وسلم. وهذا الحديث شهده جماعة كثيرة من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم إلا أنه لم يرو إلا من طريق أنس، وذلك، والله أعلم، لطول عمره، ولطلب الناس العلو فى السند.
وَكَانَ عَطَاءٌ لا يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ. وَسُؤْرِ الْكِلابِ وَمَمَرِّهَا فِى الْمَسْجِدِ، قَالَ الزُّهْرِىُّ: إِذَا وَلَغَ فِى إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، لقُولُ اللَّهُ عز وجل: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6] وَهَذَا مَاءٌ، وَفِى النَّفْسِ مِنْهُ شَىْءٌ يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ. - فيه: ابْنِ سِيرِينَ، قُلْتُ لِعَبِيدَةَ: عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ، فَقَالَ: لأنْ تَكُونَ عِنْدِى شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. - وفيه: أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِى صلى الله عليه وسلم لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ، كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ. قال المهلب: هذه الترجمة أراد بها البخارى رد قول الشافعى أن شعر الإنسان إذا فارق الجسد نجس، وإذا وقع فى الماء نجسه، وذكر قول عطاء: أنه لا بأس باتخاذ الخيوط منها والحبال، ولو كان نجسًا لَمَا جاز اتخاذه. ولمَّا جاز اتخاز شعر النبى صلى الله عليه وسلم والتبرك به، علم أنه طاهر، وعلى قول عطاء جمهور العلماء. قال المهلب: وفى حديث أنس دليل على أن ما أخذ من جسد الإنسان من شعر أو ظفر أنه ليس بنجس، وقد جعل خالد بن الوليد فى قلنسوته من شعر النبى صلى الله عليه وسلم فكان يدخل بها فى الحرب فسقطت له يوم اليمامة، فاشتد عليها شدة أنكر عليه أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لقتله من قتل فيها من المسلمين، فقال: إنى لم أفعل ذلك لقيمتها، لكنى كرهت أن تقع بأيدى المشركين وفيها من شعر الرسول صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: تمت إن أبا طلحة أول من أخذ من شعر النبى-، فإنه صلى الله عليه وسلم، لما حلق رأسه ناول أبا طلحة شعره فقسمه بين الناس، ذكر ذلك ابن المنذر. قال: ومن قول أصحابنا: أن من مس عضوًا من أعضاء زوجته أن عليه الوضوء، وليس على من مس شعرها طهارة. وذكر فى الباب أربعة أحاديث فى الكلب: - أولها: حديث أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِى إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا. - وحديثه صلى الله عليه وسلم: تمت أَنَّ رَجُلا رَأَى كَلْبًا يَأْخُذُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ، فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ. - وحديث حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَتِ الْكِلابُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِى الْمَسْجِدِ فِى زَمَانِ النَّبِى صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. - وحديث عَدِىِّ بْنِ حَاتِمٍ، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: تمت إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ، فَكُلْ-. وهذه الأحاديث معلقة بقوله فى الترجمة: وسؤر الكلاب وممرها فى المسجد، فتقدير الترجمة باب الماء الذى يغسل به شعر الإنسان، وباب سؤر الكلاب، وغرضه فى ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. واختلف العلماء فى الماء الذى ولغ فيه الكلب: فقالت طائفة: الماء طاهر يتطهر به للصلاة ويغتسل به إذا لم يجد غيره. هذا قول الزهرى، ومالك والأوزاعى. وقال الثورى، وابن الماجشون، وابن مسلمة من أصحاب مالك، يتوضأ به ويتيمم، جعلوه كالماء المشكوك فيه. وذهب أبو حنيفة، وأصحابه، والليث، والشافعى، وأبو ثور إلى أن كل ما ولغ فيه الكلب نجس، ذكره ابن المنذر. وحكى الطحاوى عن الأوزاعى: أن سؤر الكلب فى الإناء نجس، وفى الماء المستنقع ليس بنجس. قال ابن القصار: والدليل على طهارته أمره صلى الله عليه وسلم بغسل الإناء سبعًا، ولو كان منه نجاسة لأمر بغسله مرة واحدة، إذا التعبد فى غسل النجاسة إزالتها لا بعدد من المرات، وقد يجوز أن يؤمر بغسل الطاهر مرارًا لمعنى كغسل أعضاء الوضوء مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا، والغرض منها مرة واحدة، وقد قال مالك: إذا ولغ فى الطعام أكل الطعام، ويغسل الإناء سبعًا، اتباعًا للحديث. قال ابن القصار: والدليل على طهارة الكلب أيضًا أنه قد ثبت فى الشرع أن الطاهر هو الذى أبيح لنا الانتفاع به مع القدرة على الامتناع منه لا لضرورة، والنجس ما نهى عن الانتفاع به مع القدرة عليه، وقد قامت الدلالة على جواز الانتفاع بالكلب لا لضرورة كالصيد وشبهه، وإنما أمر بغسل الإناء سبعًا على وجه التغليظ عليهم، لأنهم نهوا عنها لترويعها الضيف، والمجتاز كذلك. قال ابن عمر، والحسن البصرى: فلما لم ينتهوا، غلظ عليهم فى الماء لقلة المياه عندهم فى البادية حتى يشتد عليهم، فيمتنعون من اقتنائها، لا لنجاسة. قال المهلب: وأما حديث الذى سقى الكلب، فغفر له، ففيه دليل على طهارة سؤره، لأن الرجل ملأ خفه وسقاه به، ولا شك أن سؤره بقى فيه واستباح لباسه فى الصلاة وغيرها دون غسله، إذا لم يذكر فى الحديث أنه غسله. قال غيره: وفيه وجه آخر، وذلك قوله: تمت فجعل يغرف حتى أرواه-. وذلك يدل أنه تكرر فعله فى تناوله الماء من البئر حتى أرواه مرة بعد أخرى، ولو كان سؤره نجسًا لأفسد البئر بذلك. قال المهلب: وفى هذا الحديث دليل أن فى كل كبد رطبة أجر، كان مأمورًا بقتله أو غير مأمور، فكذلك يجب أن يكون فى الأسرى من الكفار، لأن التعطيش، والتجويع تعذيب، والله تعالى لا يريد أن يعذب خلقه بل تمثل فيهم فضله من الإحسان على عصيانهم. وفى حديث حمزة أن الكلب طاهر، لأن إقبالها وإدبارها فى الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام، لأنه كان مبيت الغرباء والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسًا لمنع من دخول المسجد لاتفاق المسلمين أن الأنجاس تجنب المساجد، قال الله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} [التوبة: 28]. وقوله: تمت تقبل وتدبر- يدل على تكررها على ذلك، وتركهم لها يدل على أنه لا نجاسة فيها، لأنه ليس فى حىٍّ نجاسة. وقد روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب زيادة فى هذا الحديث عن ابن عمر، قال: تمت كانت الكلاب تبول، وتقبل وتدبر فى المسجد، فلم يكونوا يرشون شيئًا من ذلك-. ورواه أبو داود. وأما حديث عدى، فهو أدل شىء على طهارة الكلب ولعابه، وقد احتج مالك على طهارته بقوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} [المائدة: 4]، ومعلوم أنه إذا أمسك علينا فلابد من وصول لعابه مع أسنانه إلى جسم الصيد، ومعلوم أنهم فى مواضع الصيد يسمطونه ويشوونه بغشل وبغير غسل، ولو كان لعابه نجسًا لبيَّن النبى صلى الله عليه وسلم لمن صاده فى مكان لا ماء فيه أن لا يحل له أكله، فلما لم يأت فى هذا بيان منه، علم أنه مباح أكله، وإن لم يغسل من لعاب الكلب، إذ تداخله وغاص فيه. وقال ابن القصار: وأيضًا فإن الله تعالى جعل الكلب المعلم مذكيًا للصيد، ومحال أن يبيحنا تزكية نجس العين، وكل حى حصلت منه التذكية فهو طاهر العين كابن آدم. وقال محمد بن الجهم، ومحمد بن سحنون: اختلف قول مالك فى غسل الإناء من ولوغ الكلب، فقيل: إنه جعل معنى الحديث فى الكلب الذى لم يؤذن فى اتخاذه، وقيل: إنه جعله عامًا فى كل كلب، فالقول الأول هو قول محمد بن المعدل، وغسله عند مالك مسنون إذا أريد استعماله، فإن لم يرد استعماله لم يجب غسله. قال ابن القصار: وهذا مذهب الفقهاء إلا قوامًا من المتأخرين حكى عنهم أنه يجب غسله سبعًا سواء أريد استعماله أو لم يرد. قال المؤلف: ومن جعل سؤر الكلب نجسًا فغسل الإناء من ولوغه عنده فرض، ولا يُغسل الإناء عند مالك إذا ولغ فى لبن، أو طعام يؤكل الطعام واللبن، وإنما يُغسل فى الماء وحده، هذا قوله فى المدونة، وذكر ابن حبيب عن مالك أن الإناء يغسل، وإن ولغ فى ماء أو لبن أو طعام. واختلفوا فى عدد غسل الإناء من ولوغه: فذهب ابن عباس، وعروة، وطاوس، ومالك، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور إلى أن يغسل سبعًا اتباعًا لحديث أبى هريرة. وقال الحسن البصرى: يغسل سبعًا والثامنة بالتراب، واحتج فى ذلك بما رواه شعبة عن أبى التياح، عن مطرف بن عبد الله، عن عبد الله بن مغفل، أن النبى صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب، ثم قال: تمت ما لى وللكلاب-، ثم قال: تمت إذا ولغ الكلب فى إناء أحدكم فليغسله سبع مرات، وعفروه الثامنة بالتراب-. وروى عطاء عن أبى هريرة فى الإناء يلغ فيه الكلب، قال: يُغسل ثلاثًا، وهو قول الزهرى. وقال عطاء: كلا، قد سمعت: سبعًا، وخمسًا، وثلاث مرات. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يُغسل من ولوغ الكلب كما يُغسل من سائر النجاسات ولا عدد فى ذلك. وأولى ما قيل به فى هذا الباب حديث أبى هريرة فى الغسل سبعًا، فهو أصح من حديث ابن مغفل، ومن كل ما روى فى ذلك، فقد اضطرب حديث ابن مغفل، فروى مرة عن شعبة، عن أبى التياح، عن مطرف، عن ابن مغفل، أن النبى، صلى الله عليه وسلم: تمت أمر بقتل الكلاب، ورخص فى كلب الزرع والصيد-. وروى مرة على خلاف هذا. وروى أبو شهاب، عن يونس بن عبيد، عن الحسن، عن ابن مغفل، قال: تمت لولا أن الكلاب أمة لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم-. ومثل هذا الاضطراب يوجب سقوط الحديث.
بِقَوْلُهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6]. وقال عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ، أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ. وقال جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِى الصَّلاةِ أَعَادَ الصَّلاةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وقال الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ، أَوْ مِنْ أَظْفَارِهِ، أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ، فَلا وُضُوءَ عَلَيْهِ. وقال أَبُو هُرَيْرَةَ: لا وُضُوءَ إِلا مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ فِى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ، فَرُمِىَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ، وَسَجَدَ، وَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وقال الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِى جِرَاحَاتِهِمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِىٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِى الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً، فَخَرَجَ مِنْهَا دَمُ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. وَبَزَقَ ابْنُ أَبِى أَوْفَى دَمًا، فَمَضَى فِى صَلاتِهِ. وقال ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ احْتَجم: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلا غَسْلُ مَحَاجِمِهِ. هكذا رواه المستملى وحده بإثبات تمت إلا-، ورواه الكشميهنى وأكثر الرواة بغير تمت إلا-، فالمعروف عن ابن عمر، والحسن أن عليّا غسل محاجمه، ذكره ابن المنذر، فرواية المستملى هى الصواب. - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: تمت لا يَزَالُ الْعَبْدُ فِى صَلاةٍ مَا دام فِى الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ-. فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِىٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ، يَعْنِى الضَّرْطَةَ. - فيه: عبد اللَّه بن زيد، قَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت لا تَنْصَرِفْ حَتَّى تَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ تَجِدَ رِيحًا. - وفيه: الْمِقْدَادَ، أنه سأل النبِى صلى الله عليه وسلم عن المذى، فَقَالَ:- فِيهِ الْوُضُوءُ. - وفيه: عُثْمَانَ، عن النبِى، صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا جَامَعَ وَلَمْ يُمْنِ؟ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ-. وقال ذلك: عَلِىًّ، وَطَلْحَةَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأُبَىَّ بْنَ كَعْبٍ. - وفيه: أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ من الأنْصَارِ، فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ-؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: تمت إِذَا أُعْجِلْتَ، أَوْ أُقُحِطْتَ، فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ-. قال المؤلف: أما المخرجان فعند أبى حنيفة والشافعى أن كل ما يخرج منهما حدث ينقض الوضوء، نادرًا أو معتادًا، وعند مالك أن ما يخرج من المخرجين معتادًا أنه ينقض الوضوء، وما خرج نادرًا على وجه المرض لا ينقض الوضوء، كالاستحاضة، وسلس البول، والمذى، والحجر، والدود، والدم، وأما ما خرج من بدن الإنسان من الأنجاس من غير المخرجين كالقىء والرعاف، أو دم فصاد، أو دمل فلا وضوء عليه فيه عند جماعة العلماء، لا وضوء فى الجشاء المتغير، وهذا مذهب جماعة من الصحابة، وهو قول الحسن، وربيعة ومكحول، ومالك، والشافعى، وأبى ثور. وذهب أبو حنيفة وأصحابه إلى أن الوضوء فيما سال من ذلك وكثر، وإن لم يسل فلا وضوء عليه فيه، وكذلك القىء إن ملأ الفم ففيه الوضوء عنده، وإن كان دون ذلك فلا وضوء فيه، وممن كان يوجب فى الدم الوضوء. قال مجاهد فى الخدش يخرج منه الدم: يتوضأ وإن لم يسل. وقال سعيد بن جبير: لا يتوضأ حتى يسيل. وممن أوجب الوضوء فى الرعاف: سعيد بن المسيب، وعطاء، والثورى، وأبو حنيفة، وأحمد بن حنبل. وذكر ابن المنذر عن ابن عمر، والحسن، وعطاء، أنهم كانوا يرون من الحجامة الوضوء وغسل أثر المحاجم، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه وأحمد. قال ابن المنذر: وقد روينا عن غير واحد أنهم كانوا يغتسلون من الحجامة، روى ذلك عن على، وابن عباس، ومجاهد، وابن سيرين. وذكر عن ابن عمر، والحسن البصرى، رواية أخرى: أنه لا وضوء من الحجامة، وإنما عليه غسل مواضعها فقط، وهو قول مالك، وأهل المدينة، والليث، والشافعى، وأبى ثور. وقال الليث: يجزئه أن يمسحه ويصلى ولا يغسله. وعلى هذا الفصل بوِّب البخارى هذا الباب رادًا عليه، أن لا وضوء إلا من المخرجين وذكر قول الصحابة والتابعين، أنه لا وضوء من الدم، ولا من الحجامة، واحتج بقوله تعالى: {أو جاء أحد منكم من الغائط} [النساء: 43، المائدة: 6]، وحديث الذى رمى بسهم فنزفه الدم، ومضى فى صلاته حجة فى أن الدم لا ينقض الوضوء. وسائر أحاديث الباب حجة فى أن لا وضوء إلا من المخرجين. وقول عطاء فيمن خرج من دبره الدود، ومن ذكره نحو القملة، يعيد الوضوء، فهو مذهب أبى حنيفة والشافعى، فأما مالك فلا يوجب فى شىء من ذلك وضوءًا إلا أن يخرج معهما شىء من حدث. وقول جابر: إذا ضحك فى الصلاة أعاد الصلاة. فهو إجماع من العلماء، وإنما الخلاف هل ينقض وضوءه أم لا؟. فذهب مالك والليث والشافعى إلى أنه لا ينقض وضوءه. وذهب الحسن والنخعى إلى أن الضحك فى الصلاة ينقض الوضوء، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والثورى، والأوزاعى. وحجة من لم ير الوضوء من الضحك: أنه لما لم يكن حدثًا فى غير الصلاة لم يكن حدثًا فى الصلاة. وقول الحسن: من أخذ من شعره أو أظفاره، فلا وضوء عليه، هو قول أهل الحجاز والعراق. وروى عن أبى العالية، والحكم، ومجاهد، وحماد إيجاب الوضوء فى ذلك. وقال عطاء والشافعى والنخعى يمسه بالماء. وأما من خلع خفيه بعد المسح عليهما ففيهما أربعة أقوال: قال مكحول، والنخعى، والزهرى، وابن أبى ليلى، والأوزاعى، وأحمد وإسحاق: يستأنف الوضوء من أوله، وهو قول الشافعى القديم. وقال مالك والليث: يغسل رجليه مكانه، فإن لم يغسل استأنف الوضوء. وقال الثورى، وأبو حنيفة، والشافعى فى الجديد، والمزنى، وأبو ثور: يغسل رجليه إذا أراد الصلاة، ومن جعل الرتبة مستحبة فى الوضوء من أصحاب مالك يقول مثل هذا. وقال الحسن البصرى: لا شىء عليه ويصلى كما هو، وهو قول مالك، وروى مثله عن النخعى. وحديث الذى نزفه الدم من السهم، ومضى فى صلاته، يدل أن الرعاف والدم لا ينقضان الوضوء، وهو قول أهل الحجاز، وهو رد على أبى حنيفة. وفى الحجامة عند أبى حنيفة وأصحابه: الوضوء، وهو قول أحمد بن حنبل. وعند ربيعة، ومالك، والليث، وأهل المدينة: لا وضوء فى الحجامة، وهو قول الشافعى، وأبى ثور، وقالوا: ليس فى الحجامة إلا غسل مواضعها فقط. وقال الليث: يجزئ أن يمسحه ويصلى ولا يغسله وسائر ما ذكره البخارى فى هذا الباب من أقوال الصحابة والتابعين أنه لا وضوء من الدم والحجامة مطابق للترجمة أنه لا وضوء فى غير المخرجين، وكذلك أحاديث الباب حجة فى ذلك أيضًا. وقوله: تمت الحدث الضرطة، ولا ينصرف حتى يسمع صوتًا، أو يجد ريحًا-، هو إجماع من العلماء. وحديث المقداد فى المذى، مجمع عليه أن فيه الوضوء أظنه إلا أن يسلس منه عند مالك فهو مرض، ولا يكون فيه الوضوء، وحجته فى مراعاة المعتاد من المخرجين قوله صلى الله عليه وسلم فى دم الاستحاضة: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيض-، فعلل صلى الله عليه وسلم دم الاستحاضة بأنه عرق، ودم العرق لا يوجب وضوءًا، وسيأتى هذا المعنى مبينًا فى مواضعه، إن شاء الله. وأما حديث عثمان وأبى سعيد فأقل أحوالهما حصول المذى لمن جامع ولم يمن، فهما فى معنى حديث المقداد من وجه إلا أن جماعة العلماء، وأئمة الفتوى مجمعون على الغسل من مجاوزة الختان، لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وهو زيادة بيان على حديث عثمان وأبى سعيد، يجب الأخذ بها إذ الأغلب فى ذلك سبق الماء للمولج وهو لا يشعر به لمغيب العضو، إذ ذلك بدء اللذة، وأول العسيلة، فالتزم المسلمون الغسل من مَغيِب الحشفة بالسنة الثابتة فى ذلك، وشذ عن جماعتهم جاهل، خرق الإجماع وخالف سبيل المؤمنين الذين أمرنا باتباعهم، فلا يلتفت إليه ولا يعد خلافًا، وسيأتى الكلام فى هذا المعنى مستوعبًا فى باب الغسل، إن شاء الله. وقوله: تمت أو قحطت- هكذا وقع فى الأمهات وذكر صاحب الأفعال قال: يقال: أقحط الرجل إذا أكسل فى الجماع عن الإنزال، ولم يذكر قحط، والله أعلم.
- فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ النبِى صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفةَ عَدَلَ إِلَى الشِّعْبِ، فَقَضَى حَاجَتَهُ، قَالَ أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ، وَيَتَوَضَّأُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى؟ فَقَالَ: تمت الْمُصَلَّى أَمَامَكَ. - وفيه: الْمُغِيرَةِ أَنَّهُ كَانَ مَعَ النبِى صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجته، وَأَنَّ الْمُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. قوله: تمت فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ-، فيه ما تُرجم به وهو قول جماعة العلماء، وهذا الباب رد لما روى عن عمر، وعلى، أنهما نهيا أن يستقى لهما الماء لوضوئهما، وقالا: نكره أن يشركنا فى الوضوء أحد، ورويا ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم ولما روى عن ابن عمر أنه قال: ما أبالى أعاننى رجل على طهورى، أو على ركوعى وسجودى. وهذا كله مردود بآثار هذا الباب. قال الطبرى: وقد صح عن ابن عمر أن ابن عباس صب على يدى عمر الوضوء بطريق مكة، حين سأله عن المرأتين اللتين تظاهرتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثبت عن ابن عمر خلاف ما ذُكر عنه، وروى شعبة، عن أبى بشير، عن مجاهد أنه كان يسكب على ابن عمر الماء، فيغسل رجليه. وهذا أصح مما خالفه عن ابن عمر، لأن راويه أيفع، وهو مجهول. والحديث عن على لا يصح، لأن راويه النضر بن ميمون، عن أبى الجنوب، عن على، وهما غير حجة فى الدين، فلا يعتد بنقلهما، ولو صح ذلك عن عمر لم يكن بالذى يبيح لابن عباس صب الماء على يديه للوضوء إذ ذاك أقرب للمعونة من استقاء الماء له، ومحال أن يمنع عمر استقاء الماء له ويبيح صب الماء عليه للوضوء مع سماعه من النبى صلى الله عليه وسلم الكراهية لذلك. وممن كان يستعين على وضوئه بغيره من السلف، قال الحسن: رأيت عثمان أمير المؤمنين يصب عليه من إبريق، وفعله عبد الرحمن بن أبزى، والضحاك بن مزاحم، وقال أبو الضحى: لا بأس للمريض أن توضئه الحائض. قال غيره: واستدل البخارى من صب الماء عليه عند الوضوء أنه يجوز للرجل أن يوضئه غيره، لأن لما لزم المتوضئ اغتراف الماء من الإناء لأعضائه وجاز له أن يكفيه ذلك غيره، بدليل صب أسامة الماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم لوضوئه، والاغتراف بعض عمل الوضوء، فكذلك يجوز سائر الوضوء، وهذا من باب القربات التى يجوز أن يعملها الرجل عن غيره بخلاف الصلاة. ولما أجمعوا أنه جائز للمريض أن يوضئه غيره وييممه غيره إذا لم يستطع، ولا يجوز أن يصلى عنه إذا لم يستطع، دل أن حكم الوضوء بخلاف حكم الصلاة.
قَالَ إِبْرَاهِيمَ: لا بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِى الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وقال إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلا فَلا تُسَلِّمْ. - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم- وَهِيَ خَالَتُهُ- فَاضْطَجَعْتُ فِى عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْلُهُ فِى طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ، اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ، فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ.... وذكر باقى الحديث. فى هذا الحديث من الفقه رد على من كره قراءة القرآن على غير طهارة لمن لم يكن جنبًا، وهو الحجة الكافية فى ذلك، لأنه صلى الله عليه وسلم قرأ العشر الآيات من آخر آل عمران بعد قيامه من نومه قبل وضوئه، وقد قال عمر بن الخطاب لأبى مريم الحنفى، حين قال له: أتقرأ يا أمير المؤمنين على غير وضوء؟ فقال له عمر: من أفتاك بهذا أمسيلمة؟ وحسبك بعمر فى جماعة الصحابة، وهم القدوة الذين أُمرنا باتباعهم، ومن الحجة لهذه المقالة أيضًا أن الله لم يوجب فرض الطهارة على عباده المؤمنين إلا إذا قاموا إلى الصلاة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه خرج من الخلاء فأتى بطعام، فقيل له: ألا تتوضأ، فقال: تمت أريد أن أصلى فأتوضأ-؟ فرأى صلى الله عليه وسلم تأخير الطهارة بعد الحدث إلى حال إرادته الصلاة. وكره جمهور العلماء مس المصحف على غير وضوء، وأجازه الشعبى، ومحمد بن سيرين. واختلف العلماء فى قراءة الجنب للقرآن، فروى عن جماعة من السلف أنه ممنوع من ذلك، وأجاز ذلك آخرون، وسيأتى ذكر ذلك بعد هذا، إن شاء الله. واختلفوا فى القراءة فى الحمام، فأجازه النخعى ومالك، وكرهه أبو وائل، والشعبى ومكحول، والحسن.
- فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْرٍ، أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم حِينَ كسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِىَ قَائِمَةٌ تُصَلِّى، فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَنْ نَعَمْ، فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلانِى الْغَشْىُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِى مَاءً..... وذكر باقى الحديث. قال عبد الواحد: الغشى: مرض يَعْرِض من طول التعب والوقوف، يقال فيه: غشى عليه، وهو ضرب من الإغماء، إلا أنه أخف منه إذا كان خفيفًا، ولا ينقض الوضوء، ولا الصلاة، وإنما صَبت أسماء الماء على رأسها مدافعة للغشى، ولو كان كثيرًا لقطعت الصلاة، لأنه إذا كثر صار كالإغماء، ونقض الوضوء بإجماع. وقال صاحب العين: غشى عليه: ذهب عقله، وفى القرآن) كالذى يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19]، وقال: (فأغشيناهم فهم لا يبصرون} [يس: 9].
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6]. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا. وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ رَأْسِهِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ. - فيه: عَبْدُاللَّهِ بْنُ زَيْدٍ أن رجلاً قَالَ لهُ: أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِى كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ، فَغَسَلَ يَدَيه مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ ثُمَّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِى بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. اختلف أهل التأويل فى قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6]. فقالت طائفة: المراد منه مسح جميع الرأس، واحتجوا فى ذلك بحديث عبد الله بن زيد، قالوا: وهذا الحديث يدل على عموم الرأس بالمسح كعموم ما سواه من الأعضاء بالغسل، هذا قول مالك. وقال آخرون: بل الفرض مسح بعضه، واختلف أهل هذه المقالة فى مقدار الممسوح منه، فقال أبو حنيفة وأصحابه: إن مسح ربع رأسه أجزأه، ويبدأ بمقدم رأسه. وقال الحسن بن حى: يبدأ بمؤخر رأسه، وقال محمد بن مسلمة صاحب مالك: يجزئه أن يمسح ثلثى رأسه. وقال أشهب: إن اقتصر على ثلثه أجزأه. ذكره عنه ابن القصار، وروى البرقى، عن أشهب فيمن مسح مقدم رأسه: يجزئه، وهو قول الأوزاعى، والليث. قال: وذكر ابن القصار عن الثورى والشافعى: يجزئه مسح ما يقع عليه الاسم، وقالوا: المسح فى لسان العرب ليس من شأنه الاستيعاب، واحتج الطحاوى لأصحابه، قال: لما احتمل قوله تعالى: {وامسحوا برءوسكم} [المائدة: 6] مسح جميع الرأس واحتمل مسح بعضه، ودلت السنة فى حديث المغيرة أن بعضه يجزئ دل أن ذلك هو الفرض. وروى حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عمرو بن وهب الثقفى، عن المغيرة ابن شعبة، أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وعلى عمامته. ورواه ابن عون، عن ابن سيرين، عن المغيرة. وقالوا فى حديث عبد الله بن زيد، أن النبى صلى الله عليه وسلم مسح رأسه كله، وليس فى ذلك ما يدل على أنه الفرض لأنا رأيناه صلى الله عليه وسلم توضأ مرتين مرتين، وثلاثًا ثلاثًا لا على أن ذلك هو الفرض، ولكن منه فرض، ومنه فضل، ولما اكتفى صلى الله عليه وسلم بمسح الناصية عن مسح بقية الرأس، دل أن الفرض فى مسحه هو مقدار الناصية وأن ما فعله فى حديث عبد الله بن زيد وغيره مما جاوز به الناصية، كان على الفضل لا على الوجوب لا تَتضادّ الأحاديث. قالوا: ومن طريق النظر: أنَّا ومخالفونا نمسح على الخفين ونُجمعُ على أن المسح عليهما لا يعمهما، لأن من كان منا يمسح عليهما خطوطًا بالأصابع يقول: لا يمسح جانبيهما، ولا أعقابهما، ولا بطونهما، ومن كان منا يمسح على ظهورهما، وعلى بطونهما لا يمسح على جوانبهما، ولا على أعقابهما، فدل ذلك على أن ما فرضه المسح لا يراد عمومه، وإنما يراد بعضه. فأدخل عليهم الآخرون، وقالوا: وجدنا المتيمم يعم بالمسح الوجه واليدين، فكذلك المسح فى الوضوء، ينبغى أن يعم به العضو الممسوح قياسًا ونظرًا، ولأن الأمة مجمعة أن من مسح برأسه كله فهو مؤَدٍّ لفرضه، واختلفوا فيمن مسح بعضه، فالواجب أن لا يؤدى فرض الوضوء إلا بيقين، وهو مسح الرأس كله. فكان من حجة الآخرين عليهم أن التيمم يشبه بعضه بعضًا، ومنه التيمم على الوجه يعم به، ومن التيمم على اليدين تُعَمَّان، والوضوء ليس كذلك، فمنه المسح على الخفين اللذين لا يُعمَّان به، والمسح على الرأس الذى منه أشبه بالمسح على الخفين الذى منه، من مسح التيمم الذى ليس منه، وقياس مسح الوضوء على مسح الوضوء أصح من قياسه على مسح التيمم، هذا قول الطحاوى. وقال غيره: ويقال لمن زعم أن مسح الوجه فى التيمم لا يجزئ بعضه: فكذلك مسح الرأس، لأن مسح الوجه فى التيمم بدل من عموم غسله، فلابد أن يأتى بالمسح على جميع مواضع الغسل منه، ومسح الرأس أصل، فهذا فرق ما بينهما. واحتج الذين قالوا بمسح جميع الرأس بأن الباء فى قوله: (برءوسكم} [المائدة: 6] للإلصاق لا للتبعيض، وهو قول سيبويه وغيره، لا اختلاف فى ذلك بين بصرى وكوفى كقوله: (وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29]، وقد أجمعوا أنه لا يجوز الطواف ببعضه، فكذلك مسح الرأس. قال ابن القصار: ويقال لمن احتج بأنه صلى الله عليه وسلم، مسح بناصيته: يحتمل أن يراد البعض، وأن يرد الكل، كقوله تعالى: {فيؤخذ بالنواصى والأقدام} [الرحمن: 41]، فالنواصى هاهنا الرءوس، ولا يجوز أن يراد بعضها، والحديث غير صحيح، لأن راويه عن أنس معقل بن مسلم، وصحيحه مرسل عن المغيرة، ولو صح كانت لنا فيه حجة، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما لم يقتصر على مسح الناصية حتى قرن إلى ذلك مسح العمامة عُلِمَ أنه لا يجوز الاقتصار على الناصية، ويصرف مسحه على العمامة إلى العذر. وأيضًا فإن الصحابة بأجمعها نقلت وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً أنه مسح رأسه كله، وشذت رواية أنه مسح بناصيته، وحكت منه فعلة وقعت فى بعض الأوقات، فكان حملها على العذر أولى، لأنه لو أراد أن يُعَلِّم الناس الواجب لبين ذلك، كما قال لما توضأ مرة مرة: تمت هذا صفة الوضوء الذى لا يقبل الله الصلاة إلا به-. قال عبد الواحد: ولا حجة للحسن بن حى فى قوله فى الحديث: تمت فأقبل بهما وأدبر- على جواز أن يبدأ بمؤخر رأسه بالمسح، لأن قوله: تمت فأدبر بهما وأقبل- يحتمل التقديم والتأخير، إذ لا توجب الواو رتبة، وقد خرج البخارى هذا الحديث فى باب الوضوء من التور، وقال فيه: تمت فأدبر بهما وأقبل-. وهذا نص أنه بدأ بمقدم رأسه، وقد بين ذلك ما رواه مالك فى حديث هذا الباب، قال: تمت فأقبل بهما وأدبر بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذى بدأ منه-. وفى حديث هذا الباب جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرتين، وبعضهما ثلاثًا فى وضوء واحد، دليل على جواز غسل بعض أعضاء الوضوء مرة، وبعضها أكثر من ذلك. وقوله: تمت ثم- فى جميع الحديث لم يرد بها المهلة، وإنما أراد بها الإخبار عن صفة الغسل، و تمت ثم- هاهنا بمعنى تمت الواو.
- فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ زَيْدٍ أنه تَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ، فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِيهِ مِنَ التَّوْرِ، وَغَسَلَهما ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِى التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَهِ اليمنى إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ، مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. قد تقدم القول فى غسل الرجلين، وما للعلماء فى ذلك، فأغنى عن إعادته، ونذكر فى هذا الباب من ذلك ما لم يتقدم، وذلك قوله: تمت فغسل يديه إلى المرفقين وغسل رجليه إلى الكعبين-. فذهب جمهور العلماء إلى أن المرفقين يدخلان فى غسل الذراعين فى الوضوء، وهو قول مالك فى رواية ابن القاسم، وقول الكوفيين والشافعى وأحمد وجماعة. وخالف زفر أصحابه، وقال: لا يجب غسل المرفقين. وروى أشهب وابن نافع، عن مالك فى المجموع قال: ليس عليه مجاوزة المرفقين ولا الكعبين فى الغسل، وإنما عليه أن يبلغ إليهما. واحتج زفر بأن الله تعالى أمر بغسلهما إلى المرافق وجعل المرافق حدًا والحد لا يدخل فى المحدود، كقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]، فجعل الليل حدا للصوم، ولم يدخل شىء من الليل فيه، وكما نقول: دار فلان تنتهى إلى دار فلان، فتكون دار فلان حدًا لها، ولا تدخل دار فلان فى داره وكذلك هاهنا. وقال الطبرى: كل غاية حُدَّتْ ب تمت إلى-، فقد تحتمل فى كلام العرب دخول الغاية فى الحد وخروجها منه، وإذا احُتمِلَ ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيها إلا لمن لا يُجوِّز خلافه، ولا حكم فى ذلك عندنا ممن يجب التسليم لحكمه. وحجة الجماعة: أن قوله تعالى: {إلى المرافق} [المائدة: 6] بمعنى مع، وبمعنى الواو وتقديره: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم والمرافق، أو مع المرافق، كما قال تعالى: {من أنصارى إلى الله} [آل عمران: 52]، أى مع الله) ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]، أى مع أموالكم. وقد قال بعض أهل الفقه: لا يحتاج إلى هذا التأويل، ولو كما تأوله لوجب غسل اليد من أطراف الأصابع إلى أصل الكتف، ولا يجوز أن تخرج تمت إلى- عن بابها، وذلك لأنها بمعنى الغاية أبدًا وجائز أن تكون بمعنى الغاية، وتدخل المرافق فى الغسل، لأن الثانى إذا كان من الأول كان ما بعد تمت إلى- داخلاً فيما قبله، فدخلت المرافق فى الغسل لأنها من اليدين، ولم يدخل الصيام فى الليل فى قوله: (ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 117]، لأن الليل ليس من النهار. قال ابن القصار: واليد يتناولها الاسم إلى الإبط، بدليل ما روى عن عمار أنه كان يتيمم إلى الإبط، امتثالاً لما اقتضاه اسم اليد، وعمار من وجوه أهل اللغة، فما استثنى الله بعض ذلك بقوله: (إلى المرافق (بقى المرفق مغسولاً مع الذراعين نحو الاسم، ومن أوجب غسل المرفقين، فقد أدى فرضه بيقين، واليقين فى أداء الفرض واجب. والخلاف فى غسل الكعبين مع الرجلين كالخلاف فى غسل المرفقين مع الذراعين والحجة فيها واحدة. وأما قول مالك فى ذلك، فروى ابن القاسم عنه أنه إن ذهب المرفقان مع الذراعين فى القطع لم يكن عليه غسل موضع القطع، وأما الأقطع الكعبين، فلابد أن يغسل ما بقى منهما لأن الكعبين يبقيان فى الساقين بعد القطع. واختلف العلماء فى حد الكعبين اللذين يجب إليهما الوضوء، فروى أشهب عن مالك، قال: الكعب هو الملصق بالساق، المحاذى للعقب، وهو قول الشافعى وأحمد. وقال أبو حنيفة: هو الشاخص فى ظهر القدم، وأهل اللغة لا يعرفون ما قال. قال الأصمعى: الكعبان من الإنسان العظمان الناشزان من جانبى القدم، وأنكر قول العامة أنه الذى فى ظهر القدم. والكعب عند العرب ما نشز واستدار. وقال أبو زيد: فى كل رِجْلٍ كعبان، وهما عظما طرف الساق ملتقى القدمين، يقال لهما: منجمان، والدليل على صحة هذا قول النعمان بن بشير حين قال لهم النبى، صلى الله عليه وسلم: تمت أقيموا صفوفكم-، قال النعمان: فلقد رأيت الرجل يلزق كعبه بكعب صاحبه، وهذا لا يصح إلا مع القول بأنهما الناتئان فى جانبى الساقين.
وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ. - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِىَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ، فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ. وقال أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: تمت اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا. - وفيه: مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ، أن الرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَجَّ فِى وَجْهِهِ وَهُوَ غُلامٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. - وفيه: الْمِسْوَرِ، أن النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا توضأ يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ. - وفيه: السَّائِبَ قَالَ: ذَهَبَتْ بِى خَالَتِى إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ ابْنَ أُخْتِى وَجِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِى، وَدَعَا لِى بِالْبَرَكَةِ، ثُمَّ تَوَضَّأَ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ..... الحديث. قال المهلب: هذا الباب كله يقتضى طهارة فضل الوضوء، وهو الماء الذى يتطاير عن المتوضئ ويجمع بعدما غسل به أعضاء الوُضُوء. وفضل السواك هو الماء الذى ينقع فيه السواك ليرطب، وسواكهم الأراك وهو لا يغير الماء. فأراد البخارى أن يعرفك أن كل ما لا يتغير، فإنه يجوز الوضوء به، والماء المستعمل غير متغير فهو طاهر، واختلف العلماء فى ذلك: فأجاز النخعى، والحسن البصرى، والزهرى الوضوء بالماء الذى قد توضئ به، وهو قول مالك، والثورى، وأبى ثور. وقال محمد بن الحسن، والشافعى: هو طاهر غير مُطَهِّر. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: هو نجس، واحتجوا بأنه ماء الذنوب. قال ابن القصار: فيقال لهم: هذا مَثَلٌ ضربه النبى صلى الله عليه وسلم أى كما يغسل الدرن من الثوب، كذلك تتحات الذنوب بالغسل، لا أن الذنوب شىء ينماع فى الماء ولا يؤثر فى حكمه، ثم إننا نعلم أن الذنوب تتحات من كل جزء عند أول جزء من الوجه، أو اليد ثم كلما انحدر على جزء آخر هو كذلك، فينبغى أن لا يجزئه ما مر على الجزء الثانى لأنه ماء الذنوب. ونقول: إن الإجماع حاصل على جواز استعمال الماء المستعمل، وذلك أن الماء إذا لاقى أول جزء من أجزاء العضو فقد صار مستعملا، ثم يُمرُّه على كل جزء بعده فيجزئه، ولو لم يجز الوضوء بالماء المستعمل لم يجز إمراره على باقى العضو، ولوجب عليه أن يأخذ لكل جزء من العضو ماءً جديدًا. فإن قالوا: الماء المستعمل عندنا هو إذا سقط عن جميع العضو، فأما ما دام على العضو فليس بمستعمل، قيل: يلزمكم أن لا يكون مستعملاً الأعضاء كلها، لأنه لا يصح أن تكون متوضئًا بغسل بعض الأعضاء وترك البعض مع القدرة، لأن الأعضاء كلها كالعضو الواحد فى حكم الوضوء. وقد أجمعوا أن الإنسان غير مأخوذ عليه أن يوقى ثوبه، أو بدنه مما يترشش عليه من الماء المستعمل، وقد أخذ عليه أن يتحرز من ترشش البول، فلو كان نجسًا لوجب التحرز منه. فصح أنه طاهر، لأنه ماء لم يتغير طعمه ولا لونه ولا ريحه، ولم يؤثر الاستعمال فى عينه، فلم يؤثر فى حكمه، وهو طاهر لاقى جسمًا طاهرًا، فجاز أن يسقط به الفرض مرة أخرى كالماء الذى غسل به ثوب طاهر، فمن أين تحدث فيه نجاسة؟. وقد روى عن على، وابن عمر، وأبى أمامة، وعطاء، ومكحول، والنخعى، والحسن أنهم قالوا فيمن نسى مسح رأسه فوجد فى لحيته بللاً: يجزئه أن يمسحه بذلك البلل، فدل أنهم كانوا يرون استعمال الماء المستعمل. وقال غيره: يقال لمن قال: إن ماء الذنوب نجس، بل هو ماء طاهر مبارك، لأنه الماء الذى رفع الله بالغسل به الخطايا، وقد رفع الله ما كانت فيه هذه البركة عن النجاسة، وبالله التوفيق. قال المهلب: ففى أحاديث هذا الباب دليل على أن لعاب أحد من البشر ليس بنجس ولا بقية شربه، وذلك يدل أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن النفخ فى الطعام والشراب ليس على سبيل أن ما تطاير فيه من اللعاب ينجسه، وإنما هو خشية أن يتقذره الآكل منه، فأمر بالتأديب فى ذلك، وهذا التقذر الذى نهى عن النفخ من أجله مرتفع عن النبى صلى الله عليه وسلم بل كانت نخامته أطيب عند المسلمين من المسك، لأنهم كانوا يتدافعون عليها، ويدلكون بها وجوههم لبركتها وطيبها، وأنها مخالفة لخلوف أفواه البشر، وذلك لمناجاته الملائكة فطيب الله لهم نكهته، وخلوف فيه، وجميع رائحته. وفى قصة محمود: ممازحة الطفل بما يصعب عليه، لأن مج الماء قد يصعب عليه، وإن كان قد يستلذه. وحديث أبى موسى يحتمل أن يكون أمر النبى صلى الله عليه وسلم بالشرب من وضوئه الذى مج فيه، وأن يفرغا منه على نحورهما ووجوهما من أجل مرض، أو شىء أصابهما، وهو حديث مختصر لم يذكر فيه اللذان أمرهما بذلك. وفى حديث السائب: بركة الاسترقاء. وقوله فى حديث السائب: تمت إن ابن أختى وقع-، فمعناه أنه وقع فى المرض، وإن كان روى وقع بكسر القاف، وأهل اللغة يقولون: وقع الرجل، إذا اشتكى لحم قدمه، قال الراجز: كلَّ الحِذَاءِ يَحْتَذِى الحَافِى الوَقِعْ والمعروف عندنا وقع بفتح القاف والعين.
- فيه: عَبْدِاللَّهِ بْنِ زَيْدٍ، أَنَّهُ غَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ تمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وترجم له: باب مَسْحِ الرَّأْسِ مسحة واحدة - وقال فيه: فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، فَأَقْبَلَ بِيَدَه وَأَدْبَرَ بِهِا. فى هذا الحديث أنه مضمض واستنشق ثلاثًا، بخلاف ما رواه عثمان، وابن عباس فى صفة وضوء النبى صلى الله عليه وسلم ولم يذكرا مرتين ولا ثلاثًا، فدل أن المرة الواحدة تجزئ فى ذلك، وإنما اختلف فعله فى ذلك ليرى أمته التيسير فيه، وأن الوضوء لا حَدَّ فى المفروض منه والمسنون إلا بالإسباغ. واختلف العلماء فى المستحب والمسنون من مسح الرأس: فذهب جمهور العلماء أن مسح الرأس مسحة واحدة، وقال مالك: رَدُّ يديه من مؤخر رأسه إلى مقدمه مسنون، لأن مسح جميع الرأس هو أن يبدأ من مقدمه إلى مؤخره، فرده يديه بعد ذلك إلى مقدمه مسنون، ولو بدأ بالمسح من مؤخر رأسه إلى مقدمه لكان المسنون أن يرد يديه من المقدم إلى المؤخر. قال ابن القصار: وهذا مذهب ابن عمر، والحسن البصرى، وأحمد، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعى: المسنون ثلاث مسحات لمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا. والحجة على الشافعى أن المستحب والمسنون يحتاجان إلى شرع. وفى حديث عبد الله بن زيد، وابن عباس أنه مسح صلى الله عليه وسلم رأسه مرة واحدة. وفى حديث عثمان، وإن كان فيه أنه توضأ ثلاثًا ثلاثًا، فيه أنه مسح برأسه مرتين: بدأ بمقدم رأسه، ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما إلى حيث بدأ، وهو خلاف قول الشافعى. وقد توهم بعض الناس فى حديث عبد الله بن زيد أن قوله فيه: تمت ثم مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر- أنه بدأ من مؤخر رأسه فأقبل بهما، قاله الحسن بن حى. وتوهم غيره: أنه بدأ من وسط رأسه فأقبل بيديه وأدبر، وهذه كلها ظنون. وفى قوله: تمت بدأ بمقدم رأسه- ما يرفع الإشكال، وقد تقدم هذا المعنى فى باب مسح الرأس. وقوله: تمت من كفة واحدة- أراد من غرفة واحدة أو حفنة واحدة فاشتق لذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى كما يسمى الشىء باسم ما كان منه سبب، ولا يعرف فى كلام العرب إلحاق هاء التأنيث فى الكف، والله أعلم.
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ وَمِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ. - فيه: ابْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُون جَمِيعًا فِى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. قال ابن القصار: ذهب أئمة الفتوى بالأمصار إلى أنه لا بأس بالوضوء من فضل الحائض والجنب، مثل أن يفضل فى إنائهما ماء بعد فراغهما من غُسلهما، فيجوز للرجل أن يتوضأ بفضل وضوء المرأة وغسلها، إلا أحمد بن حنبل، فإنه قال: لا يجوز أن يتوضأ من فضل ما توضأت به المرأة أو اغتسلت به متفردة، ووافقنا على أنه يجوز لها أن تتوضأ من فضل الرجل، والرجل من فضل الرجل، والمرأة من فضل المرأة، وكذلك إذا استعملاه جميعًا جاز أن يتوضأ الرجل منه. قال ابن القصار: وحديث ابن عمر يسقط مذهبه، لأن الرجال والنساء إذا توضئوا من ماء واحد فإن الرجل يكون مستعملا لفضل المرأة لا محالة. قال غيره: وحديث ابن عمر هذا يعارض ما روى عن النبى، صلى الله عليه وسلم: تمت أنه نهى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة-. رواه شعبة عن عاصم الأحول، سمعت أبا حاجب يحدث عن الحكم الغفارى، عن النبى، صلى الله عليه وسلم. ورواه عاصم الأحول، عن عبد الله بن سرجس، عن النبى صلى الله عليه وسلم مثله. وأحاديث الإباحة أصح. وقد سئل ابن عباس عن فضل وضوء المرأة، فقال: هن ألطف منا بنانا، وأطيب ريحًا. وهو قول زيد بن ثابت وجمهور الصحابة والتابعين، إلا ابن عمر فإنه كره فضل وضوء الجنب والحائض. وكره سعيد بن المسيب، والحسن البصرى أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. قال الطحاوى: فإن قيل: فإن حديث ابن عمر وعائشة ليس فيهما بيان لمن أجاز للرجل الوضوء من فضل المرأة، لأنه يجوز أن يكونا يغتسلان جميعًا، وإنما التنازع بين الناس إذا ابتدأ أحدهما قبل الآخر. فنظرنا فى ذلك، فحدثنا سليمان بن شعيب، قال: حدثنا الحصيب، حدثنا همام، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أنها والنبى صلى الله عليه وسلم كانا يغتسلان من إناء واحد يغترف قبلها وتغترف قبله. وروى حماد بن زيد، عن أفلح بن حميد، عن القاسم، عن عائشة، قالت: كنت أغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد تختلف فيه أيدينا من الجنابة. ففى هذه الآثار يتطهر كل واحد من الرجل والمرأة بسؤر صاحبه، فضادّ ذلك أحاديث النهى، فوجب النظر لنخرج به من المعنيين المتضادين معنى صحيحًا، فوجدنا الأصل المتفق عليه أن الرجل والمرأة إذا أخذا بأيديهم الماء معًا من إناء واحد أن ذلك لا ينجس الماء، ورأينا النجاسات كلها إذا وقعت فى الماء قبل أن يتوضأ منه أو مع التوضؤ منه أن حكم ذلك سواء، فلما كان ذلك كذلك، وكان وضوء كل واحد من الرجل والمرأة مع صاحبه لا ينجس الماء، كان وضوءه بعده من سؤره فى النظر أيضًا كذلك. قال الطبرى: والحميم الماء الساخن، وهو فعيل بمعنى مفعول، كما قيل: فتيل بمعنى مفتول، ورأس خضيب بمعنى مخضوب، ومن سمى الحمَّام حَمَّامًا لإسخانه من دخله، وقيل للمحموم محمومًا لسخونة جسده بالحرارة، ومنه قوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] يراد به ماء قد أسخن فَأَنَّ حَرُّه، واشتد حتى انتهى إلى غايته. قال ابن السكيت: الحميم: ماء ساخن، يقال: احم لنا الماء. قال ابن المنذر: وأجمع أهل الحجاز والعراق جميعًا على الوضوء به غير مجاهد، فإنه كره الوضوء بالماء الساخن. وأما وضوء عمر من بيت نصرانية، فإنه كان يرى سؤرها طاهرًا. وممن كان لا يرى بسؤر النصرانى بأسًا: الأوزاعى، والثورى، وأبو حنيفة وأصحابه، والشافعى، وأبو ثور. قال ابن المنذر: ولا أعلم أحدًا كره ذلك غيرأحمد وإسحاق، واختلف قول مالك فى ذلك، فقال فى المدونة: لا يتوضأ بسؤر النصرانى، ولا بما أدخل يده فيه. وفى العتبية لابن القاسم، عن مالك مرة أجازه، ومرة كرهه. والسؤر: بقية الماء فى الإناء عند العرب.
|